إن الحركة الأولى، أو الفعل الأول، من أفعال المصلي الحقيقية؛ هي تكبيرة الإحرام.. هذه التكبيرة التي إذا كبرها الإنسان، دخل رسمياً في حقل اللقاء مع رب العالمين.. فقبل أن يكبر، وفي أثناء الأذان والإقامة والأدعية، هو في حالٍ ثانٍ خلف الأبواب المغلقة، وخلف أبواب السلطان، يتهيأ للقاء الإلهي.. ولكن بمجرد أن يكبّر، فقد دخل ساحة اللقاء، كالإنسان الذي كان في المدينة، وذهب إلى ميقات مسجد الشجرة -مثلاً- ليبدأ رحلة العمرة، أو الحج إلى الله عز وجل.
ولهذا يقول أرباب المعرفة في هذا المجال: إذا كان الإنسان مؤدباً في الخطوة الأولى، لدخول طاعة السلطان؛ عندئذ يرجى أن يستمر في الأدب.. ومن الممكن أن يغـتفر له سوء الآدب المتقطع، أثناء اللقاء مع السلطان.. أما الذي يدخل، ولا يراعي آدب المثول بين يدي الله -عز وجل- وإن أقبل لاحقاً؛ فإنه يعدّ مقصراً في ذلك.. ولهذا، فإذا دخل أحد وسلم على من في المجلس، ثم غفل عنهم قد يُسامح.. أما أن يدخل من دون تحية، ومن دون استئذان، ومن دون سلام.. وثم بعد ذلك يسلم، ويقبل، ويعتذر؛ فإنه قد يقبل عذره، وقد لا يقبل.
فإذن، إن التكبيرة هي الأدب الأول للدخول بين يدي الله عز وجل، وبمثابة السلام على الداخلين إلى مجلس، إن سلم عليهم فهو مؤدب في دخوله، ويرجى أن يقبل عليه السلطان بعد ذلك.. ولهذا أيضاً هنالك حركة احتياطية، وهي أن يكبر ست مرات، والسابعة تكبيرة الإحرام؛ ليتدرج في هذه التكبيرة النهائية للدخول في بحر الصلاة.
ولو كانت هنالك لفظة أرقى من التكبير: كالتسبيح، والتهليل، والتحميد؛ لجعلت مفتاحاً للصلاة.. إنّ ذكر التهليل ذكرٌ عظيم، وهو علامة الإسلام؛ ولكن الإنسان لا يهلل، ولا يسبّح، ولا يذكر الحمد ثم يدخل الصلاة؛ إنما يبدأ بالتكبير.. إن أهل البيت -عليهم السلام- عندما يفسرون التكبير يقولون: إن معنى التكبير: أن يعتقد الإنسان، بأن الله -عز وجل- أكبر من أن يوصف؛ لأن هذا منتهى التعظيم.. فعندما يقول الإنسان: الله أكبر!.. وينوي بصيغة التفضيل الأكبرية.. فالأكبرية من أي شيء؟.. الجواب: إن ما سوى الله مخلوق له، وهل يقاس الخالق بالمخلوق، ليقول: بأن الله -عز وجل- كخالق أكبر من مخلوقه؟!.. فليس هناك جهة تفاضل، ولا جهة قياس، ليجعل معنى التكبير: أن الله أكبر من... ومن... ومن...
فإذن، إن الذي يقطع النزاع، ويحسم الموضوع، هو أن يعتقد بأن الله -تعالى- أكبر من أن يوصف؛ لأن كل مخلوق، وكل محدود بحدود المكان والزمان والحجمية والجسمية، قابل للوصف.. فالموجود المتحيز بحيز الزمان والمكان؛ قابل للوصف، وقابل للإحاطة.. باستثناء وجود واحد، وهو واجب الوجود، الذي لا يحيط الإنسان به علماً؛ ولهذا يعجز عن وصفه سبحانه وتعالى.. وكما يقول الشاعر في تلك الأبيات المعروفة:
كلما أقدم فكري *** فيك شبرا فر ميلا
أي لا يمكن أن أحيط علماً بهذه الحقيقة، التي لا يمكن أن نحيط بكنهها.
إن هذا التكبير يوجب مسؤولية: فعندما يقرأ المصلي الحمد والسورة، ثم يركع ويسجد.. عليه أن يعلم أنه بين يدي هكذا موجود وهكذا رب، أكبر من أن يوصف، ومحيط بكل شيء.. وكأن هذه التكبيرة بمثابة المحرك والدافع، لأن يتقن ما بعد التكبير إلى التسليم.. ولهذا ليس من الغريب أن يلاحظ بأن المشرّع قد طعّم الصلاة خطوةً خطوةً بالتكبير: يركع، فيكبر.. ويسجد، فيكبر.. وقبل ذلك، يكبر.. ويقوم، فيكبر.. فالتكبير عبارة عن الحركة المذكّرة في كل فقرات الصلاة: من التكبير إلى التسليم.. وعندما ينتهي من الصلاة يقول ثلاثاً: الله أكبر!.. فإنه يعيش دائما جو التكبير، الذي يذكره بالعهد الذي عاهد به ربه عند بداية الصلاة.
إن الذي لا يعظم الخالق: في عينه، وفي نفسه، وفي فكره، وفي قلبه؛ سيترك ذلك فراغا في: الفكر، والقلب، والمشاعر.. وهذا الفراغ، سيملأ بغير الله عز وجل، ويحلّ فيه زيد وعمرو!.. أما الذي يعظم الخالق في نفسه؛ فإن هذا الفراغ قد ملئ بحب الله -تعالى- وتعظيمه، ولا مجال لأمر آخر أن يجد حيزا له في ذلك القلب.. ومن هنا تأتي عبادة الموحدين عبادة طبيعية من دون تكلف، بل إنهم يشتكون من أنه لا يمكنهم الإلتفات إلى غير الله عز وجل؛ لأن الإلتفات إلى هؤلاء فرع وجود فراغ في النفس، يتعلق بهم، وهذا الفراغ لا وجود له.. ومن هنا أصبحت عملية الصلاة عندهم إنسيابية، والقرآن يقول: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}، فالذين ملأ الخالق وجودهم، لم يبق عندهم مجال أبداً للشرود إلى ما سواه.. بينما هناك من يشتكي من الشرود، وشتان بين الفريقين!..
وبالتالي، فإنه إذا أتقن المصلي التكبير في أول صلاته، وذكّر نفسه بمقتضى هذا التكبير، وبمعاني التكبير في كل خطوة من خطوات صلاته، التي يكبر فيها.. يرجى أن يأتي بصلاة خاشعة، يقبلها الله -عز وجل- بمنه وكرمه.