إن المكان الذي يريد العبد ان يصلى فيه، يجب أن تكون فيه مواصفات معينه فى عالم الفقه .. فمن تلك المواصفات:
أولا: عدم الغصبية: أي أن يكون المكان مكانا مباحا.. وهنا ينتقل المصلي الخاشع إلى نقطة جوهرية، وهي أن المالك الظاهري هو الإنسان الذي يملك قطعة من الأرض، ولا يمكن للمصلي أن يصلي عليها إلا بإذن منه.. فإذا لم يكن راضيا عنه، وكان ساخطا عليه، فصلاته باطلة في هذه الأرض المغصوبة، على فتوى جميع من يشترطون الإباحة في مكان المصلي.
والأدب الباطني؛ هو أن يلتفت المؤمن إلى هذه الحقيقة الكبرى: وهي أن الأرض وما عليها وما فيها، والسماوات العلى والأرضيين السفلى؛ كلها ملك لله الواحد الأحد.. فالذي يمشي على هذه الأرض، وهو لم يحرز رضا صاحب الأرض منه ومن تصرفاته، هو إنسان غاصب.. ومن المعلوم هنا ان صاحب الأرض هو الصاحب الظاهري، ولكن الصاحب الواقعي والمالك الحقيقي اذا لم يرض عنه ، فما هو حكم صلاته ؟!.. ولهذا له الحق ان يقول له يوم القيامة: لا أقبل لك صلاة؛ لأنك كنت غاصبا لجميع بقاع الأرض أينما ذهبت وحللت ، اذ أنت غاصب لهذه الأرض؛ لأنك تمشي على أرضٍ صاحبها غير راض عنك.. اذ كيف كنت تحترم المالك الظاهري، ولا تحترم المالك الواقعي؟..
وعليه ، فإن على الإنسان المؤمن، أن يعيش هذه الحقيقية بكل وجوده .. والبعض يضيف أيضا إلى هذا المعنى معنى آخر، وهو: أن الذي لم يحقق رضى الرسول، والأئمة من أهل بيت النبي (ص)، والذي أسخط إمام زمانه.. كذلك هو إنسان غاصب؛ لأن رضاهم من رضا الله سبحانه وتعالى.
ثانيا: مراعاة الخلق: فالإنسان المؤمن إنسان قانوني في كل حركاته، وإذا أراد أن يصلي فعليه أن يراعي حقوق الخلق، فيعرف صاحب الأرض التي يصلي عليها، ويستأذنه!.. فإذا كان هذا المكان وقفا على طلبة العلم، فغير طالب العلم لا يجوز له الدخول في ذلك المكان.. وهكذا بالنسبة لباقي المسائل المرتبطة بالمكان!.. وبالتالي، فإن على المصلي أن يتفقه في دينه، وينظر إلى تلك القوانين الإلهية بكل حذافيرها.. وذلك عندما يريد أن يقيم عبادة من العبادات؛ لأن العبادات الشرعية، مزيج متمازج مع القوانين الإلهية في عالم التشريع.
ثالثا: التباعد عن الشهوات : فعندما يريد الإنسان أن يصلي، عليه أن يتباعد عن النساء، لأن بعض الفتاوى تقول بتباعد الرجل عن المرأة، إذا كانا في مكان واحد بمقدار شبر.. والبعض الآخر يرى أكثر من ذلك، وهي أنه على المرأة أن تصلي خلف الرجل.. أما أن يقفا متحاذيين، فهذه صورة من صور المخالفة لوضعية المكان في المصلي.. نعم، إن حقيقية شهوة النساء، والميل إليهن، والغريزة الدافعة إلى النساء؛ من مزال أقدام الجميع.. فالإنسان المؤمن عندما يريد أن يصلي، عليه أن يبعد عن نفسه كل صور الإثارة، وينقطع إلى ربه عز وجل.. حتى لو أن زوجته كانت معه في مكان واحد، لا ينبغي أن تقف بصفه، ولا هو ينبغي أن يقف بصفها متحاذيين بلا فاصل بينهما.. إذ أن على المصلي أن ينفصل عن الخلق، عندما يريد أن يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى.
رابعا: عدم تقدم المصلي على قبر المعصوم: لما فى ذلك من تحقق الهتك بحسب بعض الفتاوى؛ وحينئذ نقول: إذا كانت الصلاة أمام قبر المعصوم منهي عنها، فكيف بالتقدم العملي والقولي والموقفي أمام المعصوم؟!.. ومن هنا يجب على العبد أن يقف دائما خلف خط القائد، وفى خط منسجم مع الخط الإلهي المتجلي من خلال النبي وآله.. ولا ينبغي للإنسان أن يتقدم عليهم في كلمة، ولا في خطوة، ولا في موقف.. وعليه أن يتشبه بالملائكة الروحانيين والمقربين من الكروبيين، الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
فإذن إن عدم التقدم الظاهري أيضا فيه درس، بان يكون الإنسان خلف النبي وآل النبي عليهم السلام ، يأتمر بأوامرهم وينتهى عن نواهيهم ، كما قال القرآن الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.. فالقرآن يطلب من الإنسان، أن لا يجد في نفسه حرجا فيما قضى به النبي (ص).. فإذا اختلف الإنسان مع أخيه المؤمن في: مسألة، أو في تجارة، أو في شراكة، أو في معاملة.. وذهب إلى الحاكم، أو إلى القاضي، أو المجتهد، وحكم برأي الشريعة.. فرأى ذلك الإنسان في نفسه ثقلا أو تثاقلا، فهو -في الواقع- ليس مصداقا لهذه الآية؛ لأنه يجب أن لا يجد في نفسه حرجا، مما قضى الله، ورسوله، والأئمة من ذريتهم صلوات الله عليهم وآله أجمعين.
خامسا: طهارة الموضع: إن المشترط فقهيا، هو طهارة موضع السجود.. فالطهارة عنصر متكرر: ففي ثياب المصلي لا بد من الطهارة، وفي البدن لا بد من الطهارة، وفي المكان لا بد من الطهارة.. فلماذا كل هذا التاكيد على انواع الطهارات ؟..
والجواب : ان الله عز وجل، كأنه يريد أن يقول للإنسان، بلسان خفي وبلغة الإشارات: نحن لا نقبل المتدنس ظاهرا، فمن على جسمه قطعة من الدم، أو قطرة من البول، أو ما شابه ذلك؛ لا نقبل له صلاة.. فكيف بمن يكون متدنسا في باطنه، أي متدنسا ببقع من نجاسات: الحسد، والكبر، والحرص، والحقد، وما شابه ذلك من النجاسات الباطنية؟!.. فإذا كان رب العزة والجلال، لا يقبل أن يصلي الإنسان ببقعة دم حجمها أكثر من درهم، كما هو المعروف فقهيا.. فكيف بمن يصلي وهو متلطخ بأنواع مختلفة من النجاسات الباطنية المتعددة؟!..
وبالتالي، فإن طهارة المظهر هي للتذكير بطهارة المخبر.. فالإنسان الجاهل عن النجاسة الظاهرية معفو عنه؛ أي إذا صلى بنجاسات متعددة، وبما لا يؤذن به شرعا؛ ولكنه علم بذلك بعد الصلاة، فانه لا تعاد الصلاة.. بينما إذا صلى بنجاسات باطنية، ولو كان غافلا عن هذه النجاسات، فهي من موانع القبول قطعا؛ لأن هذا الوجود وجود مبغوض عند الله سبحانه وتعالى.
سادسا: الاستقرار: أي لا يجوز للإنسان أن يصلي على ظهر سفينة متأرجحة، أو على ظهر دابة متنقلة.. وإذا أراد أن يصلي، فليبحث عن الطمأنينة والاستقرار.. وفي هذا أيضا درس لأن يصلي الإنسان بين يدي الله -عز وجل- بالسكينة الباطنية، وأن لا يكون متأرجحاً.. فالذي يأتي من السوق، أو العمل، أو بعد خلاف مع زوجته.. فهذا إنسان مهتز، مثله كمثل الذي يصلي في مكان متأرجح، أو يصلي في سفينة تتقاذفها الأمواج.. وعليه، فإن على المصلي أن يستقر بباطنه، قبل أن يصلي بين يدي الله عز وجل.
بما ذكر لاحظنا أن في كل نقطة من النقاط الفقهية الظاهرية انتقال إلى نقطة أعظم مما وراء الفقه .. فطوبى لمن انتقل من ملك الصلاة إلى ملكوتها!.. لتكون الصلاة بالنسبة إليه قربانا، ومعراجا كما أراده النبي (ص).