زادك في دقائق
عنوان الزاد : اليقين في قلوب الأنصار
إن الذين كانوا في ركب الإمام الحسين (ع) هؤلاء الذين {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}؛ جمعوا بين خاصيتين:
الخاصية الأولى: البطولة النادرة، والتفاني في الدفاع عن العقيدة.
الخاصية الثانية: حالاتهم الروحية، هؤلاء كانوا أبطال بكل معنى الكلمة.. ولكن في الوقت نفسه، كانوا يعيشون أعلى درجات القرب من رب العالمين.
إن هناك شخصيتين أفردتا من بين أصحاب الحسين (ع) أحدهما: حبيب بن مظاهر، الذي نزوره هذه الأيام، وكأنه بواب الحسين (ع) وسفيره.. والآخر هو الحر بن يزيد الرياحي، فهو من الذين خلد ذكرهم في سيرة الشهداء، في ركب الحسين (ع)، وأفرد بمزار خاص به.
إن حبيب له تاريخ عريق في الجهاد، وشيبته كانت متميزة في يوم عاشوراء؛ لذا فإنه من الطبيعي أن تكون له هذه الكرامة.. ولكن الإنسان يستغرب من مكانة الحر بن يزيد، حيث يقصد مستقلا عن الشهداء، فيقف الزائر أمام الضريح ويخاطبه كما يخاطب أصحاب الحسين، قائلاً: (يا ليتنا كنا معكم؛ فنفوز فوزا)؟!..
إن الحر مظهر التوبة والإنابة: أن يقف أمام إمام زمانه، ويدخل الرعب على قلوب الهاشميات، بنات بيت النبوية؛ ما فعله ليس بالأمر البسيط!.. ولكن انظروا إلى الهمة والعزم!.. وإذا في نصف نهار أو أقل يتحول إلى أعلى عليين؛ فيصبح من الشهداء الخالدين، الذين قلّ نظيرهم في تاريخ البشرية.
فإذن، إن باب التوبة مفتوح، حتى لأمثال الحر.. فهو عندما جاء للإمام صرّح بتصريح ملفت، ترق له القلوب، قال: (يا بن رسول الله!.. كنت أول خارج عليك، فائذن لي لأكون أول قتيل بين يديك، وأول من يصافح جدك غدا).. وضعوه بين يدي الحسين (ع) وبه رمق، فجعل الحسين يمسح وجهه، ويقول: (أنت الحر كما سمّتك أمك: وأنت الحر في الدنيا، وأنت الحر في الآخرة).
هذه النقلة الفجائية في الحر، من أين جاءت؟..
الحر وما أدراك ما الحر!.. الذي أدخل الرعب على قلوب الهاشميات، وضيق على الحسين وأصحابه ومنعهم من المسير، تراه انقلب رأساً على عقب: من أشقى الأشقياء إلى أسعد السعداء، فما الذي جعله كذلك؟.. هما موقفان بهما حصَّل السعادة الأبدية: صلاته خلف الإمام (ع)، وإجلاله واحترامه لفاطمة (ع).
الموقف الأول: عندما حان وقت الصلاة، قال الحسين (ع) للحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن، فأذن.. فقال الحسين للحر: أتريد أن تصلي بأصحابك؟.. قال: لا، بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك.. موقف من الحر ينبىء بما يطوي عليه من معرفة واضحة، وإقرار بحق الحسين (ع) بالولاية والطاعة.. هذه هي البادرة الأولى للخير: جاء لقتال الحسين، وإذا به يرى نفسه مأموما بين يديه.
الموقف الثاني: وبعد صلاة العصر، أمر الحسين قافلته بالرحيل، فمنعهم الحر فقال الحسين له: ثكلتك أمك ما تريد؟!.. قال الحر: أما والله، لو غيرك من العرب يقولها لي، وهو على مثل الحال التي أنت عليها، ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله، كائنا من كان.. ولكن والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل، إلا بأحسن ما يقدر عليه.
هذه النقطة البيضاء في قلبه، رب العالمين بارك فيها، وجعلها مقدمة لهذا الفوز.. لا تستهينوا بالطاعات القليلة، ولا بالمعاصي القليلة كما في بعض الروايات، المعصية الصغيرة قد تكون مقدمة لغضب عظيم، قال النبي (ص): (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ!.. كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ؛ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ.. وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا؛ تُهْلِكْهُ).. نحن لا نعلم ما هي المعصية التي ستقصم ظهر الإنسان، من الممكن أن يتمادى الإنسان بالمعاصي سنوات من عمره، ولكن في موقف من المواقف، وإذ بذنب من الذنوب يُقسم ظهره.
فإذن، إن رب العالمين بارك في هذه الحركة الإيجابية، وقبل توبته.. وهذه بشرى لكل العصاة طوال التاريخ، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}.. وهذا الذي جرى بالنسبة إلى الحر، هنيئا له عندما قتل، وقف الإمام على رأسه، ووصفه بالحرية في الدنيا والآخرة!.. ورثاه رجل من أصحاب الحسين (ع) وقيل: بل رثاه علي بن الحسين (ع):
لنعم الحرُّ حر بني رياحٍ *** صبور عند مختلف الرماح
ونعم الحرّ إذ نادى حسينا *** فجاد بنفسه عند الصياح
فيا ربي أضفه في جنان *** وزوّجه مع الحور الملاح
هل يوم القيامة هنالك تفاوت بين مقام الحر كمكان، وبين حبيب بن مظاهر، هذا الذي أمضى شيبته في طاعة الله عز وجل؟.. كلهم شهداء بين يدي أبي عبد الله (ع)!.. وبالتالي، فإننا إذا قدمنا قربانًا من هذا القبيل؛ رب العالمين سيفتح لنا الآفاق.